موت إنشراح في غزة- قصة إبادة نظام الرعاية الصحية

المؤلف: غادة عقيل10.14.2025
موت إنشراح في غزة- قصة إبادة نظام الرعاية الصحية

بعد مرور ما يقارب العشرة أشهر منذ بداية حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية المروعة في غزة، تخطى عدد الضحايا الموثق بشكل رسمي حاجز الـ 40,000 شهيد. ومع أن هذا الرقم كارثي ومفجع بحد ذاته، إلا أنه لا يمثل بشكل كامل الأوجه المتعددة للموت التي تواجه الشعب الفلسطيني، والتي لا تنجم بشكل مباشر عن رصاصة أو قنبلة إسرائيلية.

ففي هذا "الجيتو" الذي يعيش فيه الفلسطينيون في غزة، والذي وصفه الرئيس الأميركي جو بايدن بعبارة مؤثرة بأنه "جحيم لا يوصف"، يواجه الفلسطينيون الموت بسبب وطأة الحر القائظ، والجفاف والعطش الشديد، والجوع الذي يفتك بأجسادهم، والأمراض الفتاكة التي تنتشر نتيجة للحصار المدمر المفروض على القطاع.

ومن بين هؤلاء الضحايا الذين لم يتم إحصاؤهم "إنشراح"، وهي امرأة فلسطينية أصيلة من عائلة بدراساوي العريقة – وهي إحدى قريباتي البعيدات. لقد تزوجت إنشراح من عبد الفتاح، وهو ابن عم والدي، وكانت جزءًا لا يتجزأ من مجتمع اللاجئين المهجرين من بيت دراس – تلك القرية الفلسطينية التي كانت تزدهر على بعد 32 كيلومترًا شمال شرق غزة، والتي دمرتها المليشيات الصهيونية الغاشمة في عام 1948.

لم تكن إنشراح مجرد امرأة عادية؛ بل كانت رمزًا شامخًا للقوة والعزيمة والكرم والجود في مخيم خان يونس للاجئين وفي حي القرارة. فبعد وفاة زوجها عبد الفتاح إثر نوبة قلبية ألمت به وهو في ريعان شبابه، تولت إنشراح بمفردها مهمة تربية ستة أيتام: خمسة فتيان ويافعة. كانت معروفة بمهاراتها الاجتماعية الاستثنائية وبحسها الفكاهي الذي لا يضاهى، وكانت وجهًا بشوشًا دائمًا تجده في المخيم.

خلال فترة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، جازفت إنشراح بحياتها في مناسبات عديدة لإنقاذ الأطفال الأبرياء من بطش الجيش الإسرائيلي، وكانت تتعرض للضرب المبرح في كثير من الأحيان بسبب شجاعتها النادرة. ففي إحدى المرات، وعندما قام الجيش الإسرائيلي باعتقال أخي الصغير أنور، الذي كان يبلغ من العمر 11 عامًا، بينما كان في طريقه عائداً إلى المنزل من المدرسة، اندفعت "إنشراح" كاللبوة الجريحة نحو مجموعة الجنود الذين كانوا ينهالون عليه بالضرب بالعصي الغليظة، واحتضنته بكل قوتها وصلابتها، لتحميه من الضربات المؤلمة الموجعة، وصرخت بأعلى صوتها: "هذا ابني، هذا ابني!". ألهمت صرخاتها المدوية نساء المخيم، اللواتي هرعن جميعًا لتقديم المساعدة لها على الفور. وعلى الرغم من إنقاذ أخي، فإن إنشراح أصيبت بكسر في ذراعها وبجروح وكدمات متعددة بسبب الضرب.

وعندما شبّ أطفالها وأصبحوا قادرين على الحصول على وظائف، انتقلت إنشراح من المخيم إلى قطعة أرض في القرارة تقع شرق خان يونس، حيث قامت ببناء منزلًا متواضعًا.

واستمر أنور في زيارتها بانتظام عقب انتقالها. وكانت تذكره دائمًا بطريقة مازحة باليوم الذي أنقذت فيه حياته قائلة: "هذه الزيارة هي جزء من الدين الذي تدين لي به لإنقاذي لحياتك". كانت دعابتها اللطيفة دائمًا ما تبعث البهجة والسرور في قلوب الحاضرين وتجعل الجميع يضحكون.

كانت هذه إحدى القصص العديدة التي شاركتها معنا عندما قمنا بزيارتها آخر مرة في شهر يوليو/تموز من عام 2023. فعلى الرغم من المرض الكلوي الحاد الذي كانت تعاني منه، وتأثير جلسات الغسل الكلوي التي كانت تتلقاها مرتين أسبوعيًا على صحتها العامة، فإنها ظلت مفعمة بالحيوية وكريمة الروح، تشاركنا الذكريات الجميلة وتلقي النكات المرحة على مائدة العشاء. وكان ضحكها الرنان، كعادته، يملأ المكان بالدفء والحنان.

اسم "إنشراح" في اللغة العربية يعني الفرح والبهجة، وقد كانت "إنشراح" تعيش حقًا وفقًا لجوهر اسمها ومعناه.

كانت القرارة من بين المناطق الأولى التي اجتاحها ودمرها الجيش الإسرائيلي الغاشم. وتعرض منزلها لأضرار جسيمة نتيجة للقصف العنيف، إلا أنها وعائلات أبنائها الأربعة الذين كانوا يقيمون معها تمكنوا من الفرار في الوقت المناسب. لجأوا جميعًا إلى مخيم خان يونس بالقرب من مستشفى ناصر، الذي يعتبر أكبر مجمع طبي في قطاع غزة بعد مستشفى الشفاء.

ولكن عندما فرض الجيش الإسرائيلي حصارًا مطبقًا على مجمع المستشفى في شهر فبراير/شباط الماضي، اضطرت إنشراح إلى الفرار مرة أخرى، هذه المرة بالقرب من مستشفى الأمل في خان يونس، الذي كانت القوات الإسرائيلية قد داهمته ونهبت محتوياته في وقت سابق.

في تلك اللحظة الحرجة، فقدنا الاتصال بـ"إنشراح". كنتُ غارقة في الخوف والقلق الشديدين، أتخيلها وهي تعاني من المرض القاسي وسط أتون الإبادة الجماعية، ونقص الموارد الفادح الذي لا يطاق. تضاعفت آلام فقدان والدي بسبب الحصار الإسرائيلي الظالم الذي منع توفير الرعاية الطبية المناسبة، مما زاد من شعوري العميق باليأس والإحباط عند التفكير في معاناتها ومعاناة أطفالها.

لم نتمكن من معرفة ما حدث لها إلا بعد مرور أربعة أشهر. فقد التقى ابن أخي بإحدى زوجات أبناء إنشراح بالقرب من مستشفى ناصر، وعلم منها أن حالتها الصحية كانت حرجة للغاية. وبعد أيام قليلة، تلقت عائلتي في غزة نبأ وفاتها المفجع. وفي الجنازة، شارك أبناؤها قصتهم المروعة.

فبينما كانت الهجمات الإسرائيلية الشرسة على خان يونس مستمرة، مخلفة وراءها العديد من القتلى والجرحى الفلسطينيين، قررت عائلة إنشراح الانتقال إلى مدينة رفح المكتظة بالنازحين. وصلوا إلى حي تل السلطان في رفح، محاولين البقاء على مقربة من مستشفى أبو يوسف النجار.

إلا أن حالة إنشراح الصحية تدهورت بسرعة، وأصبحت تحتاج إلى جلسات غسل كلوي ثلاث مرات أسبوعيًا، ولكن الوصول إلى المستشفى كان بمثابة كابوس مرعب. فخدمات الإسعاف كانت نادرة وخطيرة للغاية، لذا اضطر أبناؤها إلى اللجوء إلى وسائل نقل خاصة بديلة: سيارات خاصة، وعربات يجرها الحمير، وحتى كرسي متحرك عبر الطرق المدمرة المليئة بالحفر والعوائق.

انهمرت دموع ابنها إياد وهو يروي لأشقائي كيف اضطر ذات مرة للتخلي عن عربة الحمير المستأجرة التي كانت تنقل والدته المسنة، ليحمل جثث عائلة بأكملها قتلت بوحشية على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي. لقد كان عليه أن يتخذ قرارًا مستحيلاً بين الحفاظ على حياة والدته ورعاية الموتى.

واستمرت إنشراح في رحلتها الشاقة على كرسي متحرك عبر الطرق الوعرة والمدمرة، مما أثر بشكل كبير على صحتها الضعيفة والمتدهورة أصلاً.

ثم جاء اجتياح رفح في شهر مايو/أيار ليدفع عائلة إنشراح إلى الفرار مرة أخرى. لجؤوا إلى منطقة المواصي في خان يونس، وهي منطقة ترفيهية سابقة كانت تزدهر بالحياة والبهجة، ولكنها تحولت الآن إلى منطقة موبوءة بالرعب واليأس. ازدادت معاناة إنشراح بشدة عندما واجهت صعوبة بالغة في الوصول إلى جلسات الغسل الكلوي، هذه المرة في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح.

وفي نهاية المطاف، عادت العائلة إلى مستشفى ناصر، الذي تم ترميمه جزئيًا، حيث كانت الرحلات إلى دير البلح شاقة ومرهقة للغاية ولا يمكن تحملها. كانت الموارد شحيحة ونادرة في المستشفى، حيث كانت الأدوية والمعدات الطبية غالبًا غير متوفرة أو غير قابلة للاستخدام؛ بسبب القصف المستمر والمتواصل على خان يونس.

لم تكن إنشراح تتلقى الرعاية الطبية اللازمة والضرورية، على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلها أبناؤها. واستمرت حالتها الصحية في التدهور بشكل تدريجي. وفي ليلة عيد الأضحى المبارك، تم إدخال إنشراح إلى وحدة العناية المركزة المثقلة بالأعباء في مستشفى ناصر، حيث أدى النقص الحاد في الإمدادات الطبية والدعم اللوجستي إلى وفاتها المأساوية.

وفي جنازتها، تحدث أبناء إنشراح بتفصيل مؤثر ومفجع عن الظروف غير المحتملة والقاسية التي واجهتها والدتهم في الخيام: الحرارة الشديدة التي لا تطاق، والنقص الحاد في الطعام والماء النظيف، وعدم وجود مكملات غذائية ضرورية، والغياب التام لشروط النظافة الأساسية، وانقطاع الأكسجين والكهرباء. لقد ظلوا بجانبها طوال الوقت، يقدمون لها الرعاية والدعم ويدعون لها بالشفاء، ولكن الدمار المنهجي الذي لحق بنظام الرعاية الصحية في غزة تركهم عاجزين تمامًا عن تقديم المزيد.

إن إنشراح ليست سوى ضحية واحدة من بين ضحايا كثر سقطوا في ظل استهداف إسرائيل المتعمد والممنهج للقطاع الطبي في غزة. فالجيش الإسرائيلي قام بتدمير المستشفيات والعيادات والمراكز الصحية مرارًا وتكرارًا. وقام الجنود الإسرائيليون بتصوير أنفسهم وهم يدمرون بسعادة غامرة المعدات الطبية والإمدادات والأجهزة الحيوية.

ووفقًا لتقرير صادر عن مكتب الإعلام الحكومي في غزة، فقد تم إخراج 34 مستشفى من أصل 36 مستشفى عن الخدمة؛ بسبب الهجمات الإسرائيلية الوحشية. وفي المجمل، تم استهداف 161 منشأة طبية بشكل مباشر. وقُتل أكثر من 500 عامل طبي، بمن في ذلك أطباء متخصصون وذوو خبرة. ووثقت منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان" أكثر من 1,000 هجوم إسرائيلي على الأطباء والمرضى والعيادات والبنية التحتية الصحية، مما أسفر، بحسب قولهم، عن "كارثة صحية عامة" بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

إن تدمير البنية التحتية الطبية في غزة وقتل الطاقم الطبي هو عنصر قاتل آخر يضاف إلى جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. لقد أدى ذلك إلى رعب ومعاناة لا حدود لهما للمرضى وأسرهم، وأسفر ذلك عن العديد من الوفيات التي كان من الممكن تفاديها ومنع وقوعها.

في بداية الحرب الإسرائيلية، كان في غزة حوالي 350,000 مقيم يعانون من أمراض مزمنة مثل إنشراح. ولا يُعرف حتى الآن كم عدد الذين نجوا بعد 10 أشهر من هذا "الجحيم المطلق"، ولكنّ تقديرًا واحدًا صدر عن الأطباء الذين زاروا غزة مؤخرًا يشير إلى أن العدد الحقيقي للوفيات قد يبلغ 92,000 شهيد؛ بينما يشير تقدير آخر إلى أنه قد يصل إلى 186,000 شهيد.

إن دمار القطاع الطبي في غزة، جنبًا إلى جنب مع تدمير البنية التحتية للصرف الصحي وفرض التجويع القسري، يؤدي إلى إصابة الآلاف من الفلسطينيين بالأمراض المزمنة والمستعصية، حيث يصاب الناس بأمراض منهكة تفتك بأجسادهم. ويعتقد أن حوالي 100,000 شخص قد أصيبوا بالفعل بالتهاب الكبد الوبائي (أ)، ومعظمهم لا يستطيع الحصول على العلاج المناسب والضروري.

كما يوجد أيضًا أكثر من 90,000 جريح جراء الهجمات الإسرائيلية، 10,000 منهم بحاجة ماسّة للسفر خارج غزة لتلقي الرعاية الطبية المتخصصة. لكنهم لا يستطيعون المغادرة؛ لأن إسرائيل، بعد أن استولت على معبر رفح الحيوي، قامت بمنع معظم عمليات الإجلاء الطبية العاجلة.

وعلى الرغم من نداءات الاستغاثة المتكررة من المدنيين العزل وإدانة وكالات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية والمنظمات الطبية المرموقة مثل "أطباء بلا حدود" (MSF)، فإن الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين استمروا في تزويد إسرائيل بالأسلحة الفتاكة وغضوا الطرف عن الإبادة الجماعية المروعة التي تحدث في غزة وتدمير منشآتها الطبية بشكل كامل.

ومن المشين والمخزي أن نرى الرئيس بايدن يدعي رغبته الصادقة في إنهاء الحرب، ثم لا يفعل شيئًا ملموسًا على أرض الواقع لتحقيق ذلك. ومع اقتراب نهاية ولايته الرئاسية، يبدو أنه سيترك وراءه إرثًا إباديًا بامتياز، كونه الراعي الرئيسي والداعم الأول لتدمير إسرائيل الشامل لغزة وإبادة سكانها الأبرياء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة